صحابة رسول الله واجهت الدَّعوة الإسلاميَّة منذ بدايتها صعوباتٍ ومخاطر جمَّة، ورافقت كلّ مراحلها المعوِّقات، ممّا جعل انتشارها مهمَّةً صعبةً، ولم يكن للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أن يحتمل ذلك كلَّه، لولا تثبيت الله -تعالى- وتمكينه، والثُّلَّة الخيِّرة التي آمنت بدعوة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، وصبرت على إيذاء المشركين في قريش بمختلف صنوفه وأشكاله، وهذه الثُّلَّة هي من شدَّت أزر النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، واستجابت لدعوته ونصَرتهُ، لذلك استحقّ هؤلاء الصّحابة ما وصفهم به النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بكونهم خير النَّاس، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: (خيرُ النَّاسِ قَرني، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ يجيءُ أقوامٌ تَسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَهُ، ويمينُه شهادتَه)،[١] ومن بين هذه الثُّلة الخيِّرة، ومن الأوائل السَّابقين إلى الإسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي هذا المقال تعريفٌ به، وحديثٌ عن شواهد دالَّةٍ على صفةٍ من أبرز صفاته ومناقبه رضي الله عنه، وهي صفة العدل. عليّ بن أبي طالب الاسم والنّسب هو عليّ بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمُّه ابنة عمِّ أبيه أبي طالب، وهي فاطمة بنت أسد بن هاشم، وعليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- ابن عم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلام؛ حيث أسلم وهو صبيّ، وقد رافق عليّ -رضي الله عنه- النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- في وقفاتٍ ومواقف كثيرةٍ وعظيمةٍ، وقد شهد عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع الرسول -صلّى الله عليه وسلم- معظم الغزوات؛ بدءاً بغزوة بدر.[٢] الكنية واللقب يُكنَّى عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بأبي الحسين، وقد لقَّبه النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أيضاً بأبي تراب؛ ويرجع ذلك لما ورد من أنَّ علياً كان نائماً في المسجد، فجاء النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- إلى بيت علي رضي الله عنه، سائلاً زوجته فاطمة -رضي الله عنها- عنه، فلم يجده، فأخبرته أنّه حصل بينها وبين زوجها بعض الغيظ، فذهب الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- ليبحث عنه حتى جاءه النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو في المسجد، ورداؤه ساقطٌ عن شقّهِ، وقد علقت به ذرَّاتٌ من التُّراب، فنفضها عنه رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قائلاً له: قُم أبا تراب، وكان هذا اللقب محبَّباً لعليّ رضي الله عنه.[٢] وقد ورد في ذلك ما رواه سهل السَّاعدي رضي الله عنه: (ما كان لِعَلِيٍّ اسمٌ أحبَّ إليهِ مِن أَبي تُرابٍ، وإن كانَ لَيفرَحُ بِه إذا دُعِي بِه؛ جاء رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بَيتَ فاطمَةَ عليها السَّلامُ، فَلم يَجِدْ عليّاً في البَيتِ، فَقال: أينَ ابنُ عمِّكِ؟ فَقالت: كان بَيني وبَينَه شيءٌ، فَغاضَبَني فخَرجَ، فَلم يَقِلْ عِندي، فَقال رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لِإنسانٍ: انظُر أينَ هوَ، فَجاء، فَقال: يا رَسولَ اللهِ، هوَ في المَسجدِ راقدٌ، فَجاء رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وهوَ مُضطجِعٌ، قدْ سَقطَ رِداؤُه عَن شِقِّه فأَصابَه تُرابٌ، فَجَعل رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يَمسَحُه عنهُ، وهوَ يَقولُ: قُم أبا تُرابٍ، قُم أبا تُرابٍ).[٣] تعريف العدل العدل في اللغة مأخوذة من الجذر اللغويّ عَدَلَ، وهو ما قام في النُّفوس أنَّه مستقيمٌ، والعدل كذلك الحُكم بالحقِّ، وهو نقيض الجَور،[٤] وأمَّا عن معنى العدل في الاصطلاح الشَّرعي، فهو استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرَفٍ ولا تقصيرٍ ، ولا تقديمٍ ولا تأخيرٍ.[٥] عدل عليّ بن أبي طالب إنَّ العدل قيمةٌ أخلاقيَّةٌ عظيمةٌ، اتّصف الله تعالى بها، فكان من أسمائه الحُسنى العدل، وأمر عبادَه باتِّصافها والتَّخلُّق بها، فقال في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).[٦] والعدل كقيمةٍ أخلاقيَّة من أبرز القيم التي اتَّصف بها صحابة رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- وحقَّقوها، وبخاصةٍ الخلفاء الرَّاشدون رضي الله عنهم جميعاً، ومن بينهم علي رضي الله عنه، وقد دلَّت أمثلةٌ وشهدت شواهد كثيرةٌ من حياة علي بن أبي طالبٍ على عدله والتزامه بهذا الخُلق، منها:[٧] ما ورد من أنَّ عليّاً -رضي الله عنه- كان جالساً في مجلسه، فقدِمت إليه جماعةٌ، وحدَّثوه أن يعطي من المال لبعض الأشراف؛ حتى يكسب ودَّهم وعدم فراقهم له، حتى تستتبّ الأمور في يديه وتستقرّ، وبعدها يعود للعدل والعطاء بالمثل بين النَّاس، فلم يقبل عليّ -رضي الله عنه- بهذا الأمر، وردَّ عليهم مُستنكراً قائلًا: (أَتأمُرُونِّي أَن أَطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن ولّيتُ عَلَيهِم مِن أَهلِ الإسلاَمِ، وَاللهِ لا أَفعَلُ ذَلكَ، لَو كَانَ هَذَا المالُ لِي لَسَوَّيتُ بَيْنَهُم فِيهِ، كَيفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَموَالُهُم). ما جاء في قصة عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- مع الرَّجلِ غير المسلم، حيث رُوِي أنَّ عليّاً -رضي الله عنه- اختصم هو ورجلٌ نصارنيٌّ أمام القاضي شُريح، وقد سرق هذا الرَّجلُ غير المسلم قد درع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فاحتكما إلى القاضي شُريح، وكان عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- خليفةً للمسلمين، فسأل القاضي شُريح الرجلَ غير المسلم، فقال الرجلُ إنَّ الدِّرع له وفي يده، وسأل القاضي شُريح عليّاً بن أبي طالب رضي الله عنه: هل لديك بيِّنةً تثبت أنَّ الدِّرعَ لك، فضحكَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فحكم القاضي شريح بالدرع للرجلِ غير المسلم، فلمَّا رأى ما كان من حكم القاضي على خليفة المسلمين، وأميرهم، قال: (أمَّا أَنَا فَأَشهَدُ أنَّ هَذِهِ أَحكَامُ الأنبِيَاءِ، أمِيرُ المُؤمِنِينَ يُدنيِني إلى قَاضِيهِ يَقضِي عَلَيهِ، أَشهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُه، الدِّرعُ وَاللهِ دِرعُكَ يَا أَمِيرَ المُؤمنينَ).
إقرأ المزيد على
موقع عالم المعرفة للجوال